عائلة جزائرية، ككل العائلات الأخرى، تقطن في القرية القريبة من جبل متليلي، تسخر مجهوداتها في خدمة الأرض والعيش من محصولها ومنتوجها، وقبل النوم كالعادة تجتمع هذه العائلة الصغيرة في ذلك الكوخ المهترىء، الهش يتبادلون أطراف الحديث في مختلف القضايا منها الأرض أي (الوطن).
تتكون هذه العائلة من الجد محند الطاعن في السن، وبشير ابنه الذي لم يتجاوز الستين، قوي البنية، متوسط القامة، عيناه توحيان بعمق التأمل وملامح الوقار والشجاعة تبدو على وجهه، فاطمة زوجته الوفية، جميلة جدا، كثيرة النشاط والحيوية، والوشم المنقوش على وجهها زادها جمالا ورونقا، كان ابنهما ذلك الطفل المتمرد، عيناه بارزتان، متوسط القامة، كثير التساؤل عن الثورة، عن الجهاد، عن العدو الفرنسي و المجاهدين، والعمليات الفدائية، والثورة التحريرية التي كانت في أوجها وبشير وفاطمة، يتحاشان الحديث أمام عامر خوفا من إفشاء بعض الأسرار المتعلقة بالعمل الثوري المسلح ويصبح وعائلته في خبر «كان». بدأت تمر الأيام وتلتها الشهور وعامر دائم التساؤل عن الوطن الذي لا يعرف عنه الكثير إنما أحس به وولج في وجدانه، هز كيانه فقال له بشير: تعال يا عامر الآن كبرت ومن حقك أن تعرف ما هو الوطن وما قيمة الوطن.
الوطن هو تلك الكلمة النقية التي تخرج من الروح العميقة وترتبط بين الإنسان وأرضه، الوطن هو الآمان في بلدك، هو الصدق في كفاحك، هو كل زهرة تشم رائحتها بدون خوف، الوطن هو هذه القرية التي نعيش فيها، الوطن هو أن تستشهد من اجله مقابل استرجاع الأرض المغصوبة، الوطن هو .... فجأة سمع ضجيجا ونباح الكلاب في القرية فخرج بشير مسرعا من الكوخ ليستطلع الأمر، إذ هي سيارات جيب مكتظة بجنود الاستعمار تسير ببطء، مدججين بأسلحتهم الخفيفة ومعهم رجل بالزي المدني أي اللباس التقليدي الجزائري. إنه الحركي متجهين مباشرة نحو الكوخ الذي يقطن فيه بشير، بعدما أحاطوا وطوقوا المكان في صمت وسرية تامة، والمروحيات ترقص في السماء وتوجه أشعة ضوئها اتجاه القرية، توقفت السيارات ونزلت مجموعة من العساكر أحاطوا بالمنزل، فضرب العسكري الباب الخارجي بركلة واحدة فتكسر الباب واقتحموا كوخ عمي بشير، كسروا، عبثوا مرددين où est Bachir» » ثم بدأ الحركييستفز فاطمة «وين راهو بشير يا ملعونة» ثم أخذها من شعرها الطويل وضرب بها الأرض وهو لا يزال يردد: وين راهو بشير.. وهي تبكي وتصرخ «ماعلباليش»، بشير ما شفناهش مدة شهرين، لم يحتمل العجوز الطاعن في السن فقال لا يوجد بشير.
- فقال له الحركي نحن لا نتكلم معك وإنما مع زوجته.
- لكن أنا الرجل هنا في المنزل الذي يجب أن تكلموه فضربه أحد العساكر بمؤخرة الرشاش فسقط على الأرض مغمى عليه، وفاطمة تترجاهم أن يتركوه لكن الموت سبقه واستشهد لحظتها، لم يتمالك بشير أعصابه فخرج من ملجأه الذي كان متخبآ فيه، أنا هو بشير خذوني واقتلوني وافعلوا ما تريدون واتركوا زوجتي وأهلي وهو لا يعلم أن أباه قد فارق الحياة ثم قال الحركي لفاطمة لم تر بشير منذ عدة أشهر آه سوف ترين...؟ !! قبل انسحابهم أحرقوا، دمروا، اتلفوا كل ما في القرية وأخذوا معهم بشير إلى السجن بعدما تعرض للعديد من الركلات والشتائم والضرب المبرح وهم يسألونه: où est les papiers , où est les falaga وهو يردد: لا أدري لا اعلم تحيا الجزائر تحيا جبهة التحرير vive F.L.N عامر لقد رأى وشاهد وتذكر ما قص له أبوه عن الوطن والثورة وذلك الكلام بقي راسخا في ذهنه لن يمحى ولن يزول، حتى تعود الأرض إلى أهلها و يطرد هذا المستعمر من هذه الأرض الطاهرة.بعد علاقات مع بعض المجاهدين قرر عامر آن يلتحق بصفوف الجهاد لمواصلة الكفاح تاركا أمه عند خالته موهما إياها أنه سيذهب إلى المدينة للعمل وكسب الرزق بعدما أن دمر العدو كل شيء، أما بشير ظل وبات يخطط ويخطط في الهروب من السجن، حتى نال ما أراد ثم صعد إلى الجبل ليلتحق بالمجاهدين البسالى، بدأت تمر الأيام والأسابيع وتلتها الشهور حتى صار بشير قائد فرقة نظرا للعمليات الناجحة التي نفذها، من حين لآخر يبعث ببعض المال إلى عائلته عن طريق المجاهدين بدون علم زوجته أن هذه المبالغ من طرف زوجها بشير التي كانت تعتقد انه سجين العدو الفرنسي.
في يوليو عام 1960 تلقت السلطات الفرنسية معلومات خطيرة مفادها أنه يوجد في الجبل حوالي مئة مجاهد مجتمعين يخططون لتمرير كمية من الأسلحة الخفيفة عبر الحدود التونسية، فسمعت صفارات الإنذار تعلن حالة الطوارئ فأغلقوا المنافذ وطوقوا المكان، سرب من الطائرات تجول في السماء وطائرات الهيلكوبتر تحوم حول القرية، دبابات، عساكر مدججين بالأسلحة ومظليين كأنها معركة بداية الاستعمار، فاستنفر المجاهدون واشتد القتال وبدأت المعركة بقوة قنابل تسقط، قذائف تحرق كل شيء لكن المجاهدين رغم قلة السلاح وقدمه ونقص الإمكانيات استطاعوا أن يقفوا في وجهه هذا الإعصار تنقطع طلقات النار لمدة ثم تعود، اختلط الدم بماء النهر عدد القتلى من الجانبين، ثم سمع صوت خافت هادئ يصيح وينادي النجدة، النجدة ! فقال أحدهم لبشير ازحف على الجهة اليسرى لترى لمن هذا الصوت لعله لأحد جنودنا قد يكون مصاب، تسلل بشير حتى وصل ورأى شخصا ينزف منه الدم تقدم منه أكثر ليضمد جراحه، ليتفاجأ بأنه ابنه عامر فبدأ يصرخ إنه ابني، أريد المساعدة إنه ينزف، وعامر يحدق فيه ويتذكر ما قال له بشير عن قيمة الوطن، بدأ يضمد له الجرح ثم يضم ابنه إلى صدره ويقبله ويحظنه ثم اخترقت عدة رصاصات لتسكن إحداهما رأس عامر والباقي استقرت في ظهر بشير ليسقطا شهيدين وهما يظمان يعضهما.
انتهت المعركة واستشهد معظم المجاهدين الذين شاركوا في تلك المعركة وبدأ المستعمر الفرنسي في إجلاء المصابين ونقل جثث جنودهم إلى المستشفيات، والتحري مع بعض المجاهدين المعتقلين للإدلاء بأي معلومة تفيدهم فيما يخص تمرير كمية من السلاح. توجهت فاطمة إلى سجن المدينة والثقة والأمل في نفسها، حاملة معها أعباء سنين من الفراق لزوجها البطل المغوار، تنتظر أمام باب السجن والأمل في عينيها لعلها تجد زوجها مع هؤلاء المفرج عنهم، وهي تنتظر حتى أغلق باب السجن دون أن ترى زوجها، ولا تدري أين ذهب ابنها عامر، عادت أدراجها إلى القرية والخيبة في نفسها لم تظفر بما أرادت، وهي تصرخ بصمت في أعماقها أين بشير ؟ أين عامر؟ حتى وصلت إلى القرية. كان سكان القرية يتعاطفون مع فاطمة نظرا لكثرة البحث والتساؤل عن زوجها وابنها عامر والمراحل الصعبة والمميتة التي مرت بها وقت القبض على بشير وذهاب عامر إلى المدينة.
قرر أحد المجاهدين في القرية أن يخبرها بحقيقة الأمر المر والمفرح في آن واحد فناداها شيخ من شيوخ القرية بصوت منخفض تعالي يا فاطمة اجلسي واسمعي:
إن الجزائر بلد عظيم، إن هذا الشعب يحارب ويناضل من اجل الاستقلال والعيش بسلام وأمان، إن الشهداء لهم أعلى درجات الجنة، إني أريد أن أخبرك بحقيقة هي: زوجك وولدك عامر يسبحان في جنة النعيم، لقد استشهدا في معركة طاحنة ضد العدو الفرنسي، ولقد دفنا في ذلك المكان بالذات لم تتركه يواصل حديثه، لم تتمالك أنفاسها وأعصابها وبدأت تصرخ ابني، زوجي، حتى سقطت مغمى عليها، وانطفأت شمعتها في ذلك المكان تحت تراب هذه الطبيعة الحزينة، وانطفأ النور الذي كان يضيء القرية وكان الحداد في القرية تخليدا للعائلة الشهيدة
تتكون هذه العائلة من الجد محند الطاعن في السن، وبشير ابنه الذي لم يتجاوز الستين، قوي البنية، متوسط القامة، عيناه توحيان بعمق التأمل وملامح الوقار والشجاعة تبدو على وجهه، فاطمة زوجته الوفية، جميلة جدا، كثيرة النشاط والحيوية، والوشم المنقوش على وجهها زادها جمالا ورونقا، كان ابنهما ذلك الطفل المتمرد، عيناه بارزتان، متوسط القامة، كثير التساؤل عن الثورة، عن الجهاد، عن العدو الفرنسي و المجاهدين، والعمليات الفدائية، والثورة التحريرية التي كانت في أوجها وبشير وفاطمة، يتحاشان الحديث أمام عامر خوفا من إفشاء بعض الأسرار المتعلقة بالعمل الثوري المسلح ويصبح وعائلته في خبر «كان». بدأت تمر الأيام وتلتها الشهور وعامر دائم التساؤل عن الوطن الذي لا يعرف عنه الكثير إنما أحس به وولج في وجدانه، هز كيانه فقال له بشير: تعال يا عامر الآن كبرت ومن حقك أن تعرف ما هو الوطن وما قيمة الوطن.
الوطن هو تلك الكلمة النقية التي تخرج من الروح العميقة وترتبط بين الإنسان وأرضه، الوطن هو الآمان في بلدك، هو الصدق في كفاحك، هو كل زهرة تشم رائحتها بدون خوف، الوطن هو هذه القرية التي نعيش فيها، الوطن هو أن تستشهد من اجله مقابل استرجاع الأرض المغصوبة، الوطن هو .... فجأة سمع ضجيجا ونباح الكلاب في القرية فخرج بشير مسرعا من الكوخ ليستطلع الأمر، إذ هي سيارات جيب مكتظة بجنود الاستعمار تسير ببطء، مدججين بأسلحتهم الخفيفة ومعهم رجل بالزي المدني أي اللباس التقليدي الجزائري. إنه الحركي متجهين مباشرة نحو الكوخ الذي يقطن فيه بشير، بعدما أحاطوا وطوقوا المكان في صمت وسرية تامة، والمروحيات ترقص في السماء وتوجه أشعة ضوئها اتجاه القرية، توقفت السيارات ونزلت مجموعة من العساكر أحاطوا بالمنزل، فضرب العسكري الباب الخارجي بركلة واحدة فتكسر الباب واقتحموا كوخ عمي بشير، كسروا، عبثوا مرددين où est Bachir» » ثم بدأ الحركييستفز فاطمة «وين راهو بشير يا ملعونة» ثم أخذها من شعرها الطويل وضرب بها الأرض وهو لا يزال يردد: وين راهو بشير.. وهي تبكي وتصرخ «ماعلباليش»، بشير ما شفناهش مدة شهرين، لم يحتمل العجوز الطاعن في السن فقال لا يوجد بشير.
- فقال له الحركي نحن لا نتكلم معك وإنما مع زوجته.
- لكن أنا الرجل هنا في المنزل الذي يجب أن تكلموه فضربه أحد العساكر بمؤخرة الرشاش فسقط على الأرض مغمى عليه، وفاطمة تترجاهم أن يتركوه لكن الموت سبقه واستشهد لحظتها، لم يتمالك بشير أعصابه فخرج من ملجأه الذي كان متخبآ فيه، أنا هو بشير خذوني واقتلوني وافعلوا ما تريدون واتركوا زوجتي وأهلي وهو لا يعلم أن أباه قد فارق الحياة ثم قال الحركي لفاطمة لم تر بشير منذ عدة أشهر آه سوف ترين...؟ !! قبل انسحابهم أحرقوا، دمروا، اتلفوا كل ما في القرية وأخذوا معهم بشير إلى السجن بعدما تعرض للعديد من الركلات والشتائم والضرب المبرح وهم يسألونه: où est les papiers , où est les falaga وهو يردد: لا أدري لا اعلم تحيا الجزائر تحيا جبهة التحرير vive F.L.N عامر لقد رأى وشاهد وتذكر ما قص له أبوه عن الوطن والثورة وذلك الكلام بقي راسخا في ذهنه لن يمحى ولن يزول، حتى تعود الأرض إلى أهلها و يطرد هذا المستعمر من هذه الأرض الطاهرة.بعد علاقات مع بعض المجاهدين قرر عامر آن يلتحق بصفوف الجهاد لمواصلة الكفاح تاركا أمه عند خالته موهما إياها أنه سيذهب إلى المدينة للعمل وكسب الرزق بعدما أن دمر العدو كل شيء، أما بشير ظل وبات يخطط ويخطط في الهروب من السجن، حتى نال ما أراد ثم صعد إلى الجبل ليلتحق بالمجاهدين البسالى، بدأت تمر الأيام والأسابيع وتلتها الشهور حتى صار بشير قائد فرقة نظرا للعمليات الناجحة التي نفذها، من حين لآخر يبعث ببعض المال إلى عائلته عن طريق المجاهدين بدون علم زوجته أن هذه المبالغ من طرف زوجها بشير التي كانت تعتقد انه سجين العدو الفرنسي.
في يوليو عام 1960 تلقت السلطات الفرنسية معلومات خطيرة مفادها أنه يوجد في الجبل حوالي مئة مجاهد مجتمعين يخططون لتمرير كمية من الأسلحة الخفيفة عبر الحدود التونسية، فسمعت صفارات الإنذار تعلن حالة الطوارئ فأغلقوا المنافذ وطوقوا المكان، سرب من الطائرات تجول في السماء وطائرات الهيلكوبتر تحوم حول القرية، دبابات، عساكر مدججين بالأسلحة ومظليين كأنها معركة بداية الاستعمار، فاستنفر المجاهدون واشتد القتال وبدأت المعركة بقوة قنابل تسقط، قذائف تحرق كل شيء لكن المجاهدين رغم قلة السلاح وقدمه ونقص الإمكانيات استطاعوا أن يقفوا في وجهه هذا الإعصار تنقطع طلقات النار لمدة ثم تعود، اختلط الدم بماء النهر عدد القتلى من الجانبين، ثم سمع صوت خافت هادئ يصيح وينادي النجدة، النجدة ! فقال أحدهم لبشير ازحف على الجهة اليسرى لترى لمن هذا الصوت لعله لأحد جنودنا قد يكون مصاب، تسلل بشير حتى وصل ورأى شخصا ينزف منه الدم تقدم منه أكثر ليضمد جراحه، ليتفاجأ بأنه ابنه عامر فبدأ يصرخ إنه ابني، أريد المساعدة إنه ينزف، وعامر يحدق فيه ويتذكر ما قال له بشير عن قيمة الوطن، بدأ يضمد له الجرح ثم يضم ابنه إلى صدره ويقبله ويحظنه ثم اخترقت عدة رصاصات لتسكن إحداهما رأس عامر والباقي استقرت في ظهر بشير ليسقطا شهيدين وهما يظمان يعضهما.
انتهت المعركة واستشهد معظم المجاهدين الذين شاركوا في تلك المعركة وبدأ المستعمر الفرنسي في إجلاء المصابين ونقل جثث جنودهم إلى المستشفيات، والتحري مع بعض المجاهدين المعتقلين للإدلاء بأي معلومة تفيدهم فيما يخص تمرير كمية من السلاح. توجهت فاطمة إلى سجن المدينة والثقة والأمل في نفسها، حاملة معها أعباء سنين من الفراق لزوجها البطل المغوار، تنتظر أمام باب السجن والأمل في عينيها لعلها تجد زوجها مع هؤلاء المفرج عنهم، وهي تنتظر حتى أغلق باب السجن دون أن ترى زوجها، ولا تدري أين ذهب ابنها عامر، عادت أدراجها إلى القرية والخيبة في نفسها لم تظفر بما أرادت، وهي تصرخ بصمت في أعماقها أين بشير ؟ أين عامر؟ حتى وصلت إلى القرية. كان سكان القرية يتعاطفون مع فاطمة نظرا لكثرة البحث والتساؤل عن زوجها وابنها عامر والمراحل الصعبة والمميتة التي مرت بها وقت القبض على بشير وذهاب عامر إلى المدينة.
قرر أحد المجاهدين في القرية أن يخبرها بحقيقة الأمر المر والمفرح في آن واحد فناداها شيخ من شيوخ القرية بصوت منخفض تعالي يا فاطمة اجلسي واسمعي:
إن الجزائر بلد عظيم، إن هذا الشعب يحارب ويناضل من اجل الاستقلال والعيش بسلام وأمان، إن الشهداء لهم أعلى درجات الجنة، إني أريد أن أخبرك بحقيقة هي: زوجك وولدك عامر يسبحان في جنة النعيم، لقد استشهدا في معركة طاحنة ضد العدو الفرنسي، ولقد دفنا في ذلك المكان بالذات لم تتركه يواصل حديثه، لم تتمالك أنفاسها وأعصابها وبدأت تصرخ ابني، زوجي، حتى سقطت مغمى عليها، وانطفأت شمعتها في ذلك المكان تحت تراب هذه الطبيعة الحزينة، وانطفأ النور الذي كان يضيء القرية وكان الحداد في القرية تخليدا للعائلة الشهيدة